في موعد رمزي ليس ككل مواعيد الأدب، اختار الروائي اللبناني ألحان فرحات أن يُصدر روايته الجديدة "بلدية الغاب" في الثالث والعشرين من نيسان/أبريل 2025، وهو اليوم العالمي للكتاب. تاريخٌ لا يخلو من دلالة، خصوصا وأن هذا العمل الأدبي ليس مجرد رواية جديدة تضاف إلى سجل مؤلفاته، بل هو انعطافة سردية ونقدية حادة نحو أدب دستوبي dystopian توعوي يطرح أسئلته الفلسفية والسياسية من بوابة الغابة، حيث تستعير الحيوانات أدوار البشر، في محاولة لتعرية السلطة ومكرها، وكشف مساوئها، دون أن تفقد الرواية نكهتها الحكائية الساحرة.
فرحات، الذي يخوض منذ العام 2014 غمار الرواية العربية، يطلق "بلدية الغاب" كإصداره الثامن وروايته السادسة، وبعد روايات "حكاية طموح"، "براثن وأقدار"، "صرخة ضمير"، "تيرتونيوم"، و"فرسان الأرض"، وكتابي "جمال الدين" و"كتاب الفيدرالية شكل للدولة أو نظام؟ بين التاريخ والجغرافيا، ليؤكد مرة أخرى مكانته ككاتب يُجيد المزج بين الرمز والواقع، وبين المتخيل والملموس، في سرد يتقاطع فيه التاريخي مع السياسي، والوجداني مع التربوي، والفني مع النقدي.
كما يشير عنوان الرواية، تنطلق "بلدية الغاب" من فكرة تأسيس مجلس بلدي داخل الغابة الحيوانية، بقرار من "ملك الغاب" الذي لا يسعى – كما توحي العبارة – إلى إشراك سكان الغابة في الحكم أو منحهم مساحة تمثيلية حقيقية، بل إلى تمرير مشاريعه ومخططاته عبر واجهة ديمقراطية مزيفة. وهكذا تبدأ اللعبة: يحتاج الملك إلى مرشح تابع يسهل السيطرة عليه، وإلى مجلس ينفذ أوامره دون مساءلة.
ولأن لا استبداد يمكن أن ينجح دون بطانة ماكرة، يدخل على خط الرواية كل من "الثعلب المكار" و"الضبع الغدار"، كمستشارَين مواليَين للملك، يحركان المشهد السياسي بذكاء وخداع، ويساهمان في صياغة مسرحية الانتخابات التي لم تكن يومًا سوى أداة لإعادة إنتاج السلطة نفسها بوجوه مختلفة.
من جهة أخرى، لا تغيب عن الرواية الشخصيات المقاومة لهذا المشروع السلطوي. فهناك "الذئب السلطان" الذي يمثل مجتمعًا غابويًا يحترق حميةً على أرضه، ويأخذ على عاتقه مع عشيرته مهمة الدفاع عن الكرامة والحياة. إلى جانبه، نلتقي بالغزال الحكيم، والضفدع الشاعر، وغيرهم من الحيوانات التي لم تُجرد من صفاتها الإنسانية، بل أنسنتها الرواية بلطفٍ عميق لتحمل صفات الشجاعة، والتأمل، والحب، والخوف، والشك، واليقظة، وكل ما يجعل من رواية رمزية كهذه أقرب إلى الواقع من الواقع ذاته. فصبت الغابة مرآة المدينة.
رغم أن "بلدية الغاب" تنتمي من حيث التصنيف الأدبي إلى خانة الأدب الدستوبي الرمزي، إلا أنها في جوهرها مرآة صادقة لواقع يمكن إسقاطه على أي دولة أو مجتمع يعاني من عبثية السلطة وتفكك القيم وتزييف الديمقراطية. بل يمكن القول إن الرواية لا تكتفي بوصف المأساة، بل تطرح من خلال حبكتها المتشابكة سؤالاً جوهريًا: هل يمكن للغابة أن تستمر بلا ملك؟ وهل الملك، أيًا كان، حارسٌ على الخير أم راعٍ للشر؟
يطرح فرحات من خلال هذا عمله الأدبي أسئلة شائكة دون أن يسقط في المباشرة، إذ يمرر رسائله من خلال لغة مشوقة وسردٍ يُبقي القارئ مشدودًا إلى مصير المجلس البلدي، ومآلات المعارك، ومصير الحيوانات التي تنتفض على الظلم، ومشاريع التغيير التي يريد الملك تمريرها، دون أن يغفل عن بناء مشهدٍ درامي متين تتصاعد فيه التوترات حتى تبلغ ذروتها. فهل تكون دستوبيا الحيوان، انعكاسًا لواقعية الإنسان؟
ليست "بلدية الغاب" رواية تسلية أو حكاية للأطفال، بل عمل يمكن اعتباره مرجعًا أدبيًا تربويًا وتحرريًا بامتياز. فهي تدعو، من خلال شخصياتها الحيوانية، إلى الوعي، والإنتماء، والإختيار النزيه للقيادات، وتُبرز أهمية التضحية لحماية الأرض والكرامة والعيش الحر. إنها حبكة تجمع بين الفلسفة والمنطق، بين الحنين والأمل، بين ما هو ممكن وما هو ضروري، في ظل أنظمة سياسية تستبدل الديمقراطية بالإخراج المسرحي للتمثيل الزائف. وعليه من البديهي، أن تصبح الرواية مادة للدرس.
ولعل ما يُميز الرواية، إلى جانب لغتها الرشيقة وشخصياتها المُتقنة، هو ذاك التماهي الواضح مع أعمال خالدة في الأدب الرمزي مثل "كليلة ودمنة" لابن المقفع بما لها من اتصال بالفيلسوف زرادشت و "مزرعة الحيوان" للكاتب جورج أورويل. ومع ذلك، تبقى رواية "بلدية الغاب" نصا أصيلاً صُنع في لبنان، وينتمي إلى مناخه الثقافي والسياسي والاجتماعي، لينطلق منه نحو آفاق عربية وعالمية أوسع.
اللافت في غلاف الرواية ليس فقط كلمة "الغاب" ولا رسم "الحيوانات"، بل تلك الإشارة الذكية إلى "البلدية"، وهي هنا ليست مجرد مؤسسة إدارية، بل رمز لنظام الحكم التمثيلي في أدنى درجاته. اختار فرحات أن يسلط الضوء على هذه البنية، ليؤكد أن الفساد لا يبدأ من القمة فقط، بل قد يُزرع في أبسط المؤسسات، ويُموه بأسماء براقة كالمشاركة، والانتخاب، والمصلحة العامة، في حين أن النتيجة غالبًا ما تكون تعزيزًا للسلطة ومزيدًا من الإقصاء والتهميش.
بروايته الجديدة، يكرس ألحان فرحات تجربته كواحد من أبرز الأصوات الأدبية التي تكتب من لبنان ولكن لعالمٍ أوسع. فالرواية، رغم خصوصيتها اللبنانية، تستلهم قضايا الحرية، والعدالة، والمحاسبة، والفساد، وهي قضايا أممية تعني كل الشعوب. ومن هذا المنطلق، فإن "بلدية الغاب" لا تُصنف فقط ضمن خانة الأدب الرمزي أو السياسي، بل تندرج ضمن الأدب الإنساني العابر للحدود، هو أدبٌ لبناني يحاكي العالمية.
ربما لهذا السبب، تُعد هذه الرواية الأولى من نوعها في لبنان، وربما في العالم العربي، بهذا الأسلوب والمستوى، إذ تمزج بين العبرة والحكمة، وبين التخيل والتأريخ، في سردية عميقة ترشح الرواية لأن تُدرس في مناهج الأدب والمواطنة، لا بوصفها حكاية ممتعة فحسب، بل كنص نقدي تحريضي يُعيد طرح السؤال القديم الجديد: كيف تُحكم الشعوب؟ ومن يحق له أن يحكم؟
ختامًا، "بلدية الغاب" ليست مجرد مغامرة لغوية أو تمرين في الرمزية، بل هي صرخة ناعمة في وجه العتمة، محاولة لإعادة تعريف مفهوم الانتماء، وتجديد سؤال السلطة، وتحفيز القارئ على التفكير لا فقط في النهاية، بل في المسار الذي يقود إليها. إنها رواية، نعم، لكنها أيضًا مرآة، وإنذار، ودعوة لأن نقرأ، لا لننسى الواقع، بل لنفهمه ونسعى لتغييره.